الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 26 / أبريل 08:01

كائنات حبرية بعريّها الفاضح /بقلم:جنان سجيع ابوليل

كل العرب
نُشر: 30/07/14 09:15,  حُتلن: 09:23

على بعد كلمة اقف بمسافة مدروسة من الاذى، احمل بيجي اليمنى قلما وباليسرى فراغ الورقة، بعد امسية طويلة من القراءة اخيرا ادركت انه ما كان يبعدني عن الكتابة سوى مسافة كلمة! لماذا إذن قطعت تلك الكلمة خلال ثلاثة اشهر ما ان كانت لا تستحق اكثر من بضعة احرف؟! الاحرف التائهة في ابجدية هاربة لا تستحق عناء تعلمها، الاحرف التي استدركتني معلنة لي انها الغيث الهارب وما هي إلّا الهرب الذي سيغيثني يوما ما، ما بين الصمت وظل الورقة المتكلم هناك بوحا حقيقيا لا حلما متوهما، هناك رصاصا مشبعا، لا حبرا مفقودا، وهناك ايضا كائناتا حبرية لا حبرت لكائنات حية...
في ظل الورقة ستجد الكلمات عارية تماما، لا حياء فيها، لا تصنعا، لا كذبا، لا نفاقا، لا خداعا، لا تنكرا، لا تجميلا، ولا شيء فيها.. ستجدها كما هي، بعينيها، بساقيها بنفوذها، بيديها، بخديها الثملين، بعنادها واصرارها و... ... . ستجدها بانتظارك كما لو ان لا حد سبقك اليها، فكيف سيتسنى لك الهروب اليها ان لم تكن اهلا لكتابتها؟! وكيف تضع نفسك دائما في اخر نقطتين، كمن وُضع بدلا من اكثر الاشياء التي تستحق الكتابة وانت فعليا مدروس بين علامة تعجب وعلامة استفهام؟! يوما لم تتجرأ على التحرر من تينك العلامتين، مدركا انك وان تسلقت اعوجاج علامة الاستفهام، ستتزحلق على تعجب نُصب ليتركك اخيرا فوق نقطة، نقطة ستنثر جريمتك وتخطها على الورق الفاضح بالقدرة ذاتها في سلاستك بالكلام، وبالجرأة الفاضحة عينها التي تميز ما بين سطورك...
انت كاتب الحماقات سرا، تدعوك الكلمات لجلسة كتابة مفخخة ، تاخذ منك كل ما ارادته هي دون جهد الاساليب البلاغية. هكذا هي، تفخخ لك مقعدا شاغرا لتشاركها سجنها بين السطور، فماذا تريد من محكوم حكم عليه بالسجن المؤبد في ثنايا الصفحات سوى ان يستدرج محكومين اخرين ليشاركوه عزلته في منفاه الاجمل؟! فيه يتربع القلم على العرش الكبير وتحت امرته احداثا وصورا وربما رجالا ونساءا، هذا عدا الكلمات والفواصل، وعلامتا التعجب والاستفهام. وانت الوحيد الذي يضع لنفسه حاجزا مستدعيا الكلمات للتحرر من سلطة القلم، مدعيا ان القلم مهما وهب الورق من حبر ستنتهي صلاحيته، وسيبهت نور عرشه.
انت سيد القلم حتما، انت سيد القلم الذي جار على الحب ليكتب عن الموت، انت الذي اثرت ضجيج الافق بمقال يكاد لا يشبهك، تحدثت عن الموت وكانك تحدثت عن الحب مسبقا، فما من احد استطاع وصف الم الموت دون ان يدرك امل الحب... وكلنا ندرك انه ما بين الخب والموت اكثر بكثير من حرف عطف، عطف علينا وجعلنا نجرب الاثنين، الاول ابتساما والاخر بكاءا، لكن كلاهما ولدا برحم الجهل، فما من احد يستطيع ان يصف ملامحهما لنسجنهما بين السطور بتهم كثيرة، اولها الموت حبا واخرها الحب موتا.. فيصبح للجسد نشوتين في اتقان كل منها على حدا...
وحده الروائي يحتاج لخمس فصول لمضي عام وانقضاء سنة من سنواته الهاربة، فما بعد الفصول الاربعة هنالك فصل يمكنني ان اسميه فصل الكتابة، فيه يثلج الصيف نهارا، وترتقي شمس الشتاء ليلا، فما اجمل الفصول التي نضع بينها ورقة فارغة، ندعوا بفراغها عبث الفواصل، وبهذا لا نترك للكلمات مساحة لان تثور وتعلن انقلابها على سلطة الروائي او على سلطة القلم، كمن يضع الحدود لدولة لم تعلن استقلالها بعد، دولة يجندها بالغام المنطق ...
تلك المساحة الملغومة تكاد تفخخ لك صمتا، مدعيا حدس الكتابة لان تثور عليك التفاصيل الصغيرة التي لم تعرها اهتماما من قبل، يحدث احيانا ان نمر بجانب الحقيقة دون ان نرمقها بنظرة مباشرة في عتمة الاستعبار، ولا البطانة يدركون العذر الدفين الذي تحمله دمعة ساقطة من اعين الكثيرين لانها انتحرت انتحارا وهمية وتسلقت الحقيقة بحبال وهمية ايضا... عدا عن ذلك فمل شيء فينا يدعونا لان نقضي ليلة اخرى على سرير الصمت، نمارس هناك بحة الكلمات بعريها وبفضيحتها وليس هناك اكثر من ملحفة الورق التي نلتحف بها املين ان نتحايل على برودة المنفى الملغوم، والسرير المستهدف لاهانة شراستنا في ممارسة الحواس المعطوبة والتي ستشي بنا حتما في صباحها العابر...
ماذا عساه كان يقصد شاعري وملهمي المفضل، الشاعر الكبير نزار قباني حين وصف الكتابة "بفعل خلاص وفعل انحار" ؟! اكان يعي هذا حقا، وهو شاعر المراة علنا، هو الذي استضافها ومارس معها الكتابة في غالبية قصائده محافظا على عذرية الكلمة وعلى المسافة المدروسة من النشوة؟ اكان يعي هذا الوصف عن الكتابة ام انه قالها وكتبها بلكنة الاستهزاء؟
وفي اللحظات التي تتقصد بها مفاجأتي ادرك انه عندما تتوهج نشوة الكتابة نكون قد وضعنا حدودا بيننا وبين الواقع لنمارس احلامنا التي يتحقق بها كل شيء ونكتب اقدارنا دون ان نعي ذلك فعلا، وتقتادنا نشوتنا الى نهايات تليق بحياتنا، لا الى حياة تليق بنهاياتنا، فليس هناك من حياة بعد نهايتنا الكبرى وهي "الموت". حين سنموت لن نكون متساويين كما ولدنا، كلنا ولدنا بعري اللحظة، وانفقنا سنواتا في البحث عن نهاية تليق بنا لندرك اخيرا ان النهايات هي التي تبحث عنا وانها لا تستحق هذا القدر من العناء في ترويض نصوصنا الفكرية لاول مرة.
تماما كمن يقترب من فرس للمرة الاولى خائفا من ردة فعلها، ملتمسا في نظراتها خوفا من المجهول الذي يتقدم اليها فاتحا ذراعيه ببعض من الغموض...
هكذا هي حياتنا اذن، مساحات شاسعة من الالغام، والمقاعد الشاغرة المفخخة لمشاهدة موكب يجيء واخر يمضي محملا بحقائب سفر رُتبت بها اجسادنا بالجروح والتشوهات التي أُلحقت بها، تاركين ارواحنا في تابوت الحلم تبحث دون جدوى عن فراغ مظفر يستعد لعبث الفواصل بالاقدار المبتكرة وبالعلاج الوهمي لجراح لم تُنكأ يوما...
كلنا ننتظر الغيث ليهبط من احدى القطارات التي تمر بالمحطة التي تجمع الاف الحشود هنا، وكلنا ندرك ان هذا الفيث لن يأت...
كيف للغيث ان يجيء ونحن ما زلنا نحتاج ثلاثة اشهر لعبور كلمة تفصلنا عن الكتابةبمسافة مدروسة من الاذى ؟! الكلمة عينها التي لا تحتاج اللا لبضعة حروف لنقوم بخطها، لكننا دائما نرى في الكتابة فضيحة لاننا فقط نعرّي كلماتنا من الالقاب، لكن لا احد يدري انه بعرّي الكلمات لذة فاضحة تغذي نشوة الكتّاب وشهوة القرّاء...

عين ماهل

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net

مقالات متعلقة