الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 26 / أبريل 23:01

مفهوم الحياة التي لا مفهوم لديها/ بقلم: رزان عرسان بشارات

كل العرب
نُشر: 27/09/14 10:45,  حُتلن: 13:25

كانت الساعة تقارب الواحدة والنصف ليلا، سكون وهدوء وظلام كاحل وجوفي يتصارع مع القدر، بدأت الأمور تتلاشى حتى التقت بنقطة البداية.

نزلت مهرولة الى منزل جدي وجدتي.. لم أرَ جدي يجلس على مقعده ويتابع النشرات الاخبارية او الاغاني المسجلة لفريد الاطرش وعبد الحليم وعبد الوهاب لم يكن جالسا كعادته مكتّف اليدين ورافع الرجلين يرتدي نظارته التي تثبّت ذكاءه وحكمته وتظهر صفاء روحه وكماله.


حيث كان ينظر الي ويقول: "ها يا سيدي". لم يضمني واقبل رأسه .. لم استطع رؤية ابتسامته ولم يستقبلني بفنجان الشاي المعطر ورائحة الخبز المحمص .. مقعده كان خاليَا وجدي كان متعبًا جدًا، ولم ينظر اليّ حتى .. إنتظرنا وصول الاسعاف وجدي ما زال مُتعبًا يتقهقه من ألم معدته وبالتالي تتمزق شرايين ذكرياتي التي كانت تناشد الكون بالحراك.

وصلنا الى المشفى وما زال جدي مُتعبًا، فحصه الطبيب والممرض جاء مهرولا بتلك الادوات الطبية، عند غيابهما لبرهة من الزمن اعاود منادتهما وكأنهما ذلك الأمل الوحيد .. لان جدي مُتعب.. واردت له الراحة.. حيث انه كان يشعر بالبرد .. احضرت له كل الاغطية في المشفى .. ولكنه ما زال مُتعبًا ..

وقال:" خلصت يا ابو عرسان"

وكأنه كابوس من الكوابيس التي حلمت بها وقمت فازعة، بدأت الامور تشتد صعوبة وشعرت بانسياب ذلك الحنين المتألق وهو يداوي الجروح ويضم ثغرات الزمن وقلت له : "حبيب قلبي سيدي كون قوي"، قال لي: "حبيبي سيدي الله يخليلي اياكي". وهذا آخر ما قاله !!

كم من الوقت تبقى؟

بدأت الافكار تسيطر على باطن توقعاتي، وتلتف من حولي حيث أُدخل جدي الى تلك الغرفة الكبيرة المليئة بالاجهزة الكهربائية ودخلوا جميعا، جميعا دخلوا الى تلك الغرفة وبقي جدي بمفرده معهم .. لم يسمحوا لي بالدخول!

جدي مُتعب ! هل فعلا ... جدي مُتعب لهذا الحد؟!

هل أشعر بالاطمئنان ؟! هل يعرفون جدي كما اعرفه انا؟ كيف لهم ان يوفروا له الراحة والأمان؟ بحثت عن بقعة نور في ذلك الظلام الداكن او حتى منفذ، تارة اقف بجانب الباب اتنصتُ الى الاقوال في الغرفة الشاحبة وتارة اخرى اهوج للخروج من تلك القوقعة وانقاذ جدي.

في هذا الوقت شعرتُ بضيقة في النفس تنتشل ذرات الهواء من اجوافي وتأخذني الى ذلك العالم الغامض! ارتبط لساني وتشنجت تعابير وجهي وعجزت عن الحراك ..

ثم ركضت باحثة عن منفذ .. منفذ الى الوعد الذي قطعته مع نفسي.. وهو بقاء جدي معي الى الأبد! ويا ليتني توقعت او اتوقع! انتظرت انتظرت انتظرت .. حتى بدت الساعة السابعة صباحا، حيث علقت تلك الجملة على مسامعي ..

" دقيقتين – بتقدروا تفوتوا تودعوه "

نعم ؟! دقيقتين ؟ دقيقتين لتوديع جدي ..
لا تكفي دقيقتان لتوديعه لا يكفي عمري كله لتوديعه ..
هل اودع ابتسامة واشراقة وجهه الملائكي ..
هل اودع خط الرقعة المتميز وهو يخط بقلمه لائحة الخضراوات والفاكهة لجدتي ..
هل اودع رائحة العطر الفائحة من شاي جدي المعطر .. " بدي اقوم اعملك شاي من تحت ايدي"
هل اودع الابتسامة الصافية عند ذكر حديث مفرح حيث قال لي ذات يوم " بدي اضحكك قد ما بقدر يا سيدي"
هل اودع احاديثك الغنية وكلامك المفعم بالشغف والطمأنينة
هل أودع دفء قميصك الرمادي المعبئ برائحة البنُ والهيل ..
هل اودع نبضات قلبي وانشراح صدري عند رؤيتك تفتخر بنا ..

دقيقتان؟ لا تكفي لعمر عشته برفقة جدي !
نجلس على الغذاء وانت لست على رأس الطاولة .. تضحك واشاغبك .. واجلس
بجانبك .. واطلب منك ان تقص علي القصص لارتوي من قاموس مغامراتك او ان نشاهد الاشرطة القديمة المسجلة وادغدغ رأسك .. واقبله .. وانت تقول: الله يرضى عليكي يا سيدي ..
جدي ابو عرسان انتَ رمز للجلالة والعز والكرامة انتَ منبع للصدق والأمان والطهارة
انتَ الحب والامل والحياة .. انتَ ذلك الحنين الى الماضي .. والامل للمستقبل والصبر
للحاضر .. انتَ الصديق المخضرم بكل المعاني والالوان.. علمني، ارشدني وقادني
الى احلى واجمل المغامرات .. حملني منذ ان كنت طفلة .. وغرس في قلبي تلك

الحكم العريقة والمفاهيم الجميلة التي تزخرف الماضي وتعطيني تلك الارشادات لفهم ما يدور حولي .. الام مدرسة اذا اعددتها اعددت شعبا طيّب الاعراق وانت يا جدي، اثبت لي ان الجد اسطورة .. اذا فهمتها واتقنت العيش معها اعددت شعبا متميزا يتحلى ببذرة الانسانية ..

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net


مقالات متعلقة