الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 18 / أبريل 20:02

حين تكلمت العذراء/ بقلم: الشاعرة مريم مشتاوي

كل العرب
نُشر: 25/04/15 11:31,  حُتلن: 13:53

حين تكلمت العذراء
تعالي يا مريم بسرعة هكذا قالت أمي وهي تحاول نقل الفراش من غرفة الجلوس إلى باب المنزل الرئيسي ... كان ذاك ملجأنا الأول حين يشتد القصف... فالباب الرئيسي يستند على حائط عريض علّقت عليه منى أم مريم صورة العذراء والصليب... ووضعت تحته شمعة تحمل طلباتها إلى السيدة العذراء وتنير الغرفة الظلماء التي نادراً ما كان يضيئها التيار الكهربائي...

كانت صورة العذراء تسمعها فكانت أمي تشكو لها رحيل أبي بعد أن هدد بالقتل لمعرفته أشياء ما كان يفترض أن يعرفها ولدعمه للقضية الفلسطينية... كانت تشكو لها وحدتها وأحياناً تنهار باكية أمامها وأخرى توبّخ الزوج على قسوته وتحميلها الصليب منفردة... كانت تشعر أن مريم العذراء حملت صليباً يشبه صليبها ...

وكانت أمي ترى الصورة ترشح زيتاً وتمسح الزيت بيدها وتضعه على جبيني... وكنت أيضاً أسمعها تجيب الصورة قائلة: نعم يا سيدتي العذراء غفرت له لأني أحبك ... لأنك تألمت مثلي...
ركضت بسرعة إلى الباب الرئيسي... ووضعت أمي الفراش وطلبت مني أن أسند رأسي قرب الباب وجلست فوقي لتحميني من الموت.. وكل ما سقطت قذيفة تعلو صرختها :" يا مريم"...
ثم تقول لي : صلي يا مريم... فأنا سميتك على اسم السيدة العذراء كي تحميك...

وكنت أجيب أمي بصلاتي التي لا أعرف غيرها منذ ولدت: السلام عليك يا مريم يا ممتلئة النعمة الرب معك مبارك أنت بين النساء ومبارك ثمرة بطنك سيدنا يسوع المسيح...
وحين أنهي الصلاة كنت دوماً أرى الدموع في عينيها وكانت تهمس في أذني:
ابقي في قلبي يا مريم الصغيرة فأنت عجيبتي... الرب يسوع يقول إن صلاة الأطفال مجابة... صلي يا مريم... صلي...
وحين نصحو في الصباح كانت أمي تمد يدها إلى الصحن الصغير الذي أضاءت فيه الشمعة... فيخيّل لها أن بقايا الشمعة بعد ذوبانها تحمل رسائل لها من السماء... وتأتي هذه الرسالة أحياناً بشكل تمثال شمع صغير...

انظري يا مريم العذراء تجسدت بتمثال من شمع...
مر أكثر من ثلاث سنوات وأمي تنتظر رجوع أبي إلينا ... تنتظر رسالة تخفف عنها الوجع وتنقلنا إلى بلد آمن...
كنا نسكن في بيروت الشرقية وكان عمل أمي في بيروت الغربية... وبين الاثنين خط يسمى ب" خط التماس" ... يقف خلفه القناصون بانتظار فريستهم الجديدة...
في الصباح كانت أمي تلبس ثيابها وتضع في جيبها المسبحة الصغيرة المكرسة.. كانت تضعها كل يوم أحد أمام المذبح كي يصلي الكاهن عليها ... فتلك المسبحة كانت سلاحها الوحيد أمام القناص... وكانت تقول أنها هدية من السيدة العذراء..

قبلتني وقالت لي مبتسمة : صلي يا مريم كي أعود...
وأخذتني بين ذراعيها وراحت تلاعب خصلات الشعري المرتجفة وأنا شممتها بقوة كي تبقى رائحتها معي طوال اليوم...
وكنت أدرك أنها عادت حين أسمع زغاريد الجارة تليها خطوات أمي على السلم...

وأكثر من مرة كنت أسمع الجارة أم أنطوان تقول:
"يا منى شو الله بلاكي بهالشغل .. أنت ممرضة ومعك شهادة كبر الحيط.. شو ما في مستشفيات غير مستشفى الجامعة الأمريكية ببيروت؟"

وكانت أمي تجيبها بابتسامة:
"العذراء بتعمي عين القناص لا تخافي عليّ ..."
كانت عودتها لي كل يوم سالمة انتصاراً جديداً...

وفي يوم قلت لها :
"ماما ليه ما بتعطي القناص شوكولا هيك بصير بحبك.."
ضحكت وقالت لي: عم بعطيه يا مريم لا تخافي...

وفي الليل اشتد القصف فقالت أمي :
بسرعة يا مريم ... علينا أن ننزل بسرعة ...
واجتمعنا مع كل سكان البناية في الطابق الأول من العمارة اعتقادا منا أنه الأكثر أمنا في زمن الحرب الأهلية اللبنانية.

قال أبو بيار:
" الله يقصف عمرهم هريونا حرب تحرير وحرب إلغاء ... لك نحنا التغينا... من مين بعدن عم بحررونا..."
وردت أم ريتا: "يا رب بعود عنا هالكأس "
فهي كانت تدرك أن القذائف قد تكون من حزب أحد عناصره من نفس المنطقة أو الشارع، وأحيانا كثيرة من نفس البيت.
وفجأة سمعنا انفجارا كبيرا وبعدها مباشرة حجبت سحابة بيضاء رؤيتي لكل من كان حولي.. كنت خائفة أن أنادي أمي فلا تجيبني.
للحظات قليلة عم الهدوء...

وثم سمعت نواح جارتنا نجاح وهي تشد شعرها وتمزق ثيابها وتضرب على صدرها :
بنتي دخيلكم بنتي... روزا قومي يا روزا...
كنت أشعر أني في حلم غريب وأريد أن أستيقظ منه قرب صورة العذراء وبين ذراعي أمي...

حملتني أمي بسرعة وقالت :
"صلي يا مريم ...صلي ..دخيلك يا عدرا وين أخذت روزا..."
أم روزا غابت عن الوعي وكأنها أرادت أن تلحق بابنتها..

وبدأ يعلو النواح ورأيت جارتنا تاريز تقطع شعرها وهي تقول:
"تقبريني يا زغيرة يا ريت أنا يلي متت"...
بعد ذلك الحادث قررت أمي أن نغادر بيتنا في بعبدا، وانتقلنا لنسكن في مستشفى الجامعة الأميركية مقر عملها.

ومرت الأيام بطيئة موجعة وأمي تنتظر أن تفي العذراء بوعدها لها وتحمل إليها رسالة من أبي..
والتقيته بعد عدة سنوات وأنا أحمل ابني الصغير على يدي .. كان ينتظرني في مطار بيتسبرغ... لم نتكلم كثيراً ... وكم تمنيت أن أتصل بأمي لأقول لها:
أُطفِئي شمعتك اليوم فموعدك مع عجيبتك المنتظرة قد تأخر عشرين سنة...

الشاعرة والكاتبة هي لبنانية الأصل 

 


موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net 

مقالات متعلقة