الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 28 / مارس 09:01

الجذور الاجتماعية للتجربة الديمقراطية /بقلم: فادي أبو بكر

كل العرب
نُشر: 28/05/15 11:35,  حُتلن: 07:44

فادي أبو بكر في مقاله:

تعد نظرية العقد الإجتماعي من النظريات المؤثرة في تكوين النظام الديمقراطي الغربي فقد عززت أفكار السيادة الشعبية وكفالة حقوق وحرية الشعب وردع الحكم الاستبدادي الذي كان يمارسه حكام وملوك الغرب

الديمقراطية ليست حكراً على الغرب فهي قيمة تسعى لها مختلف الشعوب ولا يمكن للديمقراطية أن تظهر إلا عندما تصبح القاعدة الاجتماعية والاقتصادية ومجتمعها المدني مهيأً لاستقبالها

البحث في الجذور الاجتماعية للتجربة الديمقراطية في العالم العربي هو بحث في الظروف والشروط التي سمحت بوصول المجتمعات العربية إلى النظام الديمقراطي

بلا شك فالتحول الديمقراطي لا بد أن يكون له ارتباط وثيق بتغيرات اقتصادية وسياسية واجتماعية وطبقية أيضاً

طرح جان جاك روسو في كتابه "العقد الاجتماعي" نظرية قامت على دراسة المجتمعات الأولى والتي كانت قليلة العدد بسيطة التكوين، حيث يرى روسو بأن تلك المجتمعات لم تكن بحاجة إلى هيكل تنظيمي، ومع تطور الحياة وازدياد الناس، توجهت المجتمعات لإنشاء دولة وتشريع وحاكم، واضطروا للتنازل عن بعض حقوقهم في سبيل إقامة سلطة تحكمهم وترعى شؤونهم. وعرفت هذه بنظرية العقد الإجتماعي؛ وتفيد بكون السلطة تستند على الإرادة الشعبية، وأن يحكم الشعب بالشعب، ويكون صاحب السيادة والسلطة والتشريع.

تعد نظرية العقد الإجتماعي من النظريات المؤثرة في تكوين النظام الديمقراطي الغربي، فقد عززت أفكار السيادة الشعبية، وكفالة حقوق وحرية الشعب، وردع الحكم الاستبدادي الذي كان يمارسه حكام وملوك الغرب، وقد مثلت نظريات كهذه دوراً حاسماً في قيام الثورات في أمريكا وأوروبا، وفي تطور الأنظمة الديمقراطية بأشكالها المختلفة الليبرالية والاجتماعية.
يشيع في الغرب؛ أن أوروبا أورثت العالم القيم الإنسانية والديمقراطية، بينما يملك الشعب العربي تراث شرقي استبدادي. علماً بأن أوروبا لها تاريخ طويل من الاستبداد، ولم تبدأ بالتوجه نحو الديمقراطية وبالتدريج إلا منذ قرنين من الزمن. بالإضافة إلى أن شكل الدولة الأوروبية كان مرتبطاً بقيام نظام حكم ملكي استبدادي، وفي ظله نشأت فكرة "القومية". فإذا كان الاستبداد مشتركاً ما بين التراث السياسي الأوروبي والعربي، فإن الأخير كان أرحم على فترات طويلة من الزمن.

الديمقراطية ليست حكراً على الغرب، فهي قيمة تسعى لها مختلف الشعوب، ولا يمكن للديمقراطية أن تظهر إلا عندما تصبح القاعدة الاجتماعية والاقتصادية ومجتمعها المدني مهيأً لاستقبالها، أي إن بناءها يتطلب اكتساب المجتمعات صفة الديمقراطية، وبما أن الأحزاب السياسية تعتبر حجر الأساس التي تقوم عليه الديمقراطية؛ كمنظومات جماهيرية تتسع للكثير من مكونات المجتمع بمعزل عن انتماءاته الدينية والمذهبية والقومية، فإن اكتساب المجتمع لصفة الديمقراطية يتم من خلال إيمان هذه الأحزاب بمبادئ الديمقراطية، الأمر الذي سيودي بطبيعة الحال إلى دمقرطة الدولة.

يعتقد (روبرت دال) أن نظام الحكم الديمقراطي هو"حكم الكثرة"، ويرى أن نظاماً كهذا يتطلب وجود قواعد ومبادئ عامة، إلى جانب مؤسسات حكومية ومدنية تضبط عملية ممارسة النظام الديمقراطي، وتؤمن بالتداول السلمي للسلطة، وتدعو إلى إشراك كافة الأطر والشرائح الاجتماعية في العملية السياسية، وفق دستور يضمن حماية العملية السياسية الديمقراطية.
إن البحث في الجذور الاجتماعية للتجربة الديمقراطية في العالم العربي، هو بحث في الظروف والشروط التي سمحت بوصول المجتمعات العربية إلى النظام الديمقراطي. بلا شك فالتحول الديمقراطي لا بد أن يكون له ارتباط وثيق بتغيرات اقتصادية،سياسية، اجتماعية، وطبقية أيضاً.

إن أخذنا مصر نموذجاً، فقد بدأ الاهتمام بالظاهرة الديمقراطية الغربية في العصر الحديث، مع احتكاكها بالغرب من خلال الحملة الفرنسية على مصر، ويمثل هذا الاحتكاك البذرة الأولى التي زرعت مفهوم الديمقراطية لدى المصريين.
تعد مصر تاريخياً رائدة البلدان العربية من حيث مؤسسات الديمقراطية، حيث تم إنشاء أول مجلس شورى النواب عام 1866، ثم مرت بإنقطاعات طويلة فيما يتعلق بالتطور الديمقراطي منذ الاحتلال البريطاني لها في عام 1882، ثم المرحلة الليبرالية الوفدية التي بدأت عقب ثورة 1919، ومن بعدها برلمان 1924، ثم استمر النظام السياسي في مصر في الانقطاع عن الممارسة السياسية الديمقراطية الحقيقية نحو ستين عاما،ً برغم توافر التعددية السياسية الشكلية، مما حرم الشعب المصري من تشكيل ثقافة ديمقراطية حقيقية.
بالنظر إلى الأحزاب والتعددية السياسية كالحجر الأساس للعملية الديمقراطية، فقد بدأت ظاهرة الأحزاب في مصر منذ عام 1907م، فظهر أحزاب: الوطني، والعمال، والنبلاء، كما ظهرت أحزاب موالية للإنجليز أمثال الحزب الدستوري، وبقي الحزب الوطني الأبرز على الساحة المصرية حتى تم حل الأحزاب في يناير 1953، وكما يلاحظ فإن للاستعمار البريطاني أثراً في نشأة الأحزاب السياسية، من واقع المصلحة الاستعمارية البريطانية، لكن ذلك لا يعني عدم استفادة المصريين من التجربة.

بعد ثورة يوليو عام 1952، بدأت التجربة الناصرية، وحاولت طرح نفسها كتجربة ديمقراطية نابعة من ظروف المجتمع العربي وأوضاعه، وتبنت مفهوماً ديمقراطياً نابعاً من طبيعة المجتمع المصري وظروفه.
جعلت ثورة يوليو"إقامة الحياة الديمقراطية"مبدأً أساسياً من مبادئ الثورة، يعقب القضاء على الاستعمار، والإقطاع، والاحتكار وسيطرة رأس المال المستغل، وإقامة العدالة الاجتماعية وجيش وطني قوي. ويقول عبد الناصر أن هذا المبدأ وضع أخيراً، لأن سابقاته تمهد له؛ حيث يستحيل تحقيق الديمقراطية قبل القضاء على الاستعمار والاحتكار وإقامة العدالة الاجتماعية.
كانت الركيزة الاجتماعية في الميثاق الناصري الأساس الذي تقوم عليه الركائز الأخرى السياسية والاقتصادية منها، وتتمثل هذه الركيزة الاجتماعية بإزالة الفوارق الطبقية وتحقيق العدالة الاجتماعية. فالميثاق الناصري يشدد على"أن الديمقراطية السياسية لا يمكن أن تتحقق في ظل سيطرة طبقة من الطبقات، والصراع الحتمي والطبيعي بين الطبقات لا يمكن تجاهله، وإنما يتبقى أن يكون حله سلمياً في إطار الوحدة الوطنية وعن طريق تذويب الفوارق بين الطبقات". بمعنى آخر، فإن الميثاق الناصري يؤكد على الديمقراطية كسلطة للشعب وسيادته.

أما بخصوص العدالة الاجتماعية، فإن عبد الناصر رأى أن الديمقراطية مرتبطة بتحقيق العدالة الاجتماعية، حيث يقول:
"لقد واجهنا منذ أول أيام هذه الثورة متناقضات كبيرة، وشعرنا أن عدم التكافؤ الاجتماعي والاقتصادي لا بد أن ينتج عنه عدم تكافؤ سياسي، وكنا نشعر أن الحرية كتبت في الدساتير فقط، ... ومن يملك الأرض، ورأس المال، وأدوات الإنتاج، يملك حرية الناس، وعلى هذا آمنا أن الحرية لا بد أن تكون حرية سياسية واجتماعية، ولا بد أن يحرر الفرد من الاستغلال بكل معانيه الاقتصادية والاجتماعية حتى يستطيع أن يباشر حريته السياسية".
حارب عبد الناصر الإقطاع لكونه تقييداً للحرية السياسية للشعب، وللتخلص من الاستبداد السياسي وهذا يعكس مدى تأثر الخطاب الناصري بالخطاب الاشتراكي الماركسي الذي يرى في الدولة أداة قمعية، وجهاز سياسي يخدم طبقة اقتصادية رأسمالية تسيطر على أدوات الانتاج ووسائله.

على الرغم من تقارب الاشتراكية المصرية والشيوعية أو الماركسية اللينينية فيما يتعلق بصراع الطبقات، إلا أن هناك اختلافات جوهرية في جوانب أخرى. فالنظرية الماركسية ترى في الدولة تعبيراً عن مرحلة معينة، وهي مرحلة الصراع بين الطبقات، وعندما تصبح الطبقة العاملة أو البروليتاريا هي المسيطرة، وتختفي الطبقات الأخرى، ويصبح المجتمع شيوعياً، تلغى الحاجة للدولة. لا يتفق الخطاب الناصري مع ذلك، بل ينادي بتحالف قوى الشعب العامل وحكم الشعب، ونصَّ الميثاق الناصري على: "أننا لا نقبل أبداً بحكم الطبقة، لأننا لا نريد أن نتخلص من حكم تحالف الاقطاع مع رأس المال لنقع تحت ديكتاتورية البروليتاريا كطبقة أخرى"، وهذا يعد خلافاً فكرياً أساسياً ما بين الناصرية والشيوعية.
إن هذا الخلاف الفكري يدل على أن الناصرية متأثرة بالديمقراطية الغربية في بعض جوانبها وإن لم تعترف بذلك، وحاولت أن تجعل من تجربتها الديمقراطية خليطاً من مفاهيم غربية وشيوعية، إلا أن النظريات الناصرية تعتبر مرجعاً أساسياً في القيم والأهداف لكثير من الأحزاب السياسية العربية الحالة، ويمكن القول بأن المرحلة الناصرية كانت مرحلة مهمة من مراحل"التحول الديمقراطي" في مصر، بغض النظر عن الممارسات العملية على أرض الواقع المصري، فعملية التحول الديمقراطي لا تعني الوصول إلى الديمقراطية الكاملة، وإنما محاولة لترسيخ نظام ديمقراطي، وفي عهد عبد الناصر لم تتحقق الديمقراطية بالكامل، فعلى الرغم من تحقيق نوع من العدالة الاجتماعية، إلا أن إلغاء الأحزاب وغيرها جعل الديمقراطية منقوصة في مصر.

دخلت مصر بعد وفاة عبد الناصر، مرحلة مختلفة كلياً، وبحسب عصمت سيف الدولة فقد "بدأ التقدم إلى الخلف من عام 1971"، أي في عهد الرئيس أنور السادات، حيث نادى نظام السادات بالانفتاح الاقتصادي، الذي يرفض سيف الدولة أن يصفه بذلك، ويرى فيه انقلاباً على المقومات الأساسية للمجتمع. توالت التشريعات والقرارات بالعشرات لتحقيق أهداف سياسة الانفتاح. وبصدور دستور 1971وقرارات الانفتاح الاقتصادي عام 1974م أُبيح للرأسماليين بالعودة إلى مجالات التصنيع والتعدين والطاقة والسياحة والنقل، واستصلاح الأراضي البور والصحراوية واستزراعها بدون حد، وذلك عن طريق تأجيرها لآجال طويلة. إلى جانب ذلك حُرم تأميم المشروعات والأعمال الاستثمارية والبنوك التجارية وغيرها، كما أعاد السادات الحياة إلى الأحزاب.
لم يختلف عهد السادات عن عهد عبد الناصر فيما يتعلق بالمسألة الديمقراطية، ففي عهد عبد الناصر كان هناك عدالة اجتماعية في مقابل إعدام للأحزاب السياسية، وأيام السادات أعيدت الحياة للأحزاب في مقابل عودة الرأسمالية، وفي كلا الفترتين لم تصل مصر لديمقراطية حقيقية .

مع سقوط الأنظمة الشيوعية وحل الاتحاد السوفيتي عام 1991م، أصبح مفهوم الديمقراطية من أكثر المفاهيم شيوعاً في الخطاب السياسي المعاصر، وشهد العالم العربي تحوّلاً كبيراً في تطبيق الديمقراطية والتعددية، بفعل المؤثرات الخارجية المرتبطة بالتحولات الدولية ، إضافة إلى الضغوط الخارجية من قبل الولايات المتحدة كقطب دولي أحادي يهيمن على النظام الدولي لتبني الأنظمة إصلاحات اقتصادية وسياسية،
وقد استجاب نظام الرئيس حسني مبارك للضغوط الأمريكية، وسار في طريق السادات، حتى تنحيه عام 2011 بعد ثورة عرفت ب"ثورة يناير"، بعد حكم دام ثلاثين عاماً، إلا أن الديمقراطية كانت غائبة عن الوعي في فترة حكمه، ومن أبرز هذه الدلائل: أنه على الرغم من أن المجتمع الطبقي قديم جداً سواء في مصر أو في العالم ، لكن أيام مبارك ، تحول المجتمع المصري إلى مجتمع طبقي بامتياز وبشكل مر للغاية، إضافة إلى الانتخابات المزورة التي كانت تنظم وينجح فيها مبارك بنسبة 99%! . إلى جانب ذلك فقد كان مبارك يحاول العبث بالدستور المصري في سبيل توريث ابنه جمال.

يرى سعد الدين إبراهيم أن ثورة يناير لم تكن نتيجة تباطؤ أو تلكؤ التنمية الاقتصادية، حيث أن الظلم لا يؤدي إلى الثورات وإنما الشعور بالظلم، واستعان إبراهيم بنظرية الحرمان النسبي في تحليله، والتي تقول" أن الأفراد تقارن نصيبها من السلع والخدمات وحظوظ الحياة، لا بما كانت عليه منذ عشر سنوات، ولكن بما عليه حظ الآخرين خلال نفس المدة في نفس البلد، أو في بلدان قريبة". ويبرهن إبراهيم على ذلك بأن في مصر ارتفع النصيب السنوي للفرد من500دولار إلى 5500 دولار في العشر سنوات الماضية، وهذا يدل على أن الثورة قامت ليس بسبب حرمان الأفراد من حاجاتها الأساسية، وإنما بسبب الشعور بالظلم والاستبداد السياسي بالأساس.
قامت ثورة يناير بفعل تحرك قوى اجتماعية، تتضمن فئة الشباب المتعلم المنحدرين عموماً من الطبقة الوسطى، كما لوحظ انخراط العنصر النسوي. إلى جانب ذلك فقد كان للمؤسسة العسكرية دور كبير في الثورة.
إن ثورة 25 يناير تعتبر إعلان سقوط "العقد الاجتماعي" الذي كان قائماً بين النظام والشعب المصري، وذلك بسبب عدم وفاء النظام بالتزاماته تجاه شعبه، واستبداد الحكم وعدم إشراك الشعب في العملية السياسية والتنموية للبلاد.
على الرغم من أن مصر تعيش مرحلة من التخبط في سبيل ترسيخ نظام ديمقراطي، إلا أنها ما زالت في الطريق إلى الديمقراطية، ولم تتنفس مصر الديمقراطية الحقيقية بعد، ولكن كما يُقال " أول الغيث قطرة".

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة