الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 25 / أبريل 02:01

من الذي يعيش في الآخر/ بقلم: كميل فياض

كل العرب
نُشر: 29/08/15 18:05,  حُتلن: 07:25

ومن الذي يخلق الآخر الانسان ام العالم ؟!
ليس الاعتقاد والعقائد ما يعطي الجواب ، وليس الفلسفة ولا العلم المبني على الادوات وعلى ما تعطيه الافكار والحواس الصانعة للأدوات ، وهي ايضًا ادوات ..
اذن كيف يمكن ان نعرف كيف نعرف حقيقتنا ..؟
هل عن طريق تفكيك انساننا الى عناصره التي تكون منها، والى وحداته التي بني من مجموعها .؟ اي كما نريد ان نعرف آلة – مثلاً - سيارة نفككها قطعة قطعة ثم نعيد تركيبها هكذا نكوِّن فكرة صحيحة عنها وهكذا نتعامل معها بصورة صحيحة .. !
يمكن ذلك غير ان إنساننا ليس مجرد آلة ميكانيكية مادية ، بل الى ذلك هو وعي ووجدان ومشاعر وعقل وافكار ومفاهيم وقيم وتجارب وتاريخ ضارب جذوراً بعيدة في الوجود وفي الزمن ..

وهو عبارة عن تراكم من كل ذلك ، عملت فيه ظروف واحوال ومكتسبات شتى من بيئات شتى ومن ازمنة شتى ..
لكن بما ان جوهر الوجود وجوهر الحياة هو ذاته في جميع الأزمنة والأمكنة وفي جميع الكائنات في النهاية ، من حيث وحدة العناصر الطبيعية وعوامل البقاء ، كالحرارة والضوء والهواء والماء والغذاء، ومن حيث خضوعنا لنفس القوانين والتأثرات، فان سلوكنا ومفاهيمنا تستند – مهما تباعدت واختلفت في الظاهر – الى دوافع مشتركة وان اختلفت فنسبيًا فقط لا جوهريًا سواء في الظاهر وفي الباطن..

في الظاهر الملموس نحن مادة من نفس اصل ذات العناصر ، فجميع الكائنات الحية تتنفس وتأكل وتشرب وتتناسل وتنام ، وتتفكك وتتحلل .. هذه ظواهر حياتية كلنا ندركها ببساطة وكلنا (نعيشها) وطبعًا نقر بها ولا جديد في الأمر ..
الخلاف بين الناس ليس اذن في ذلكم ، بل على الباطن وعلى ما في الباطن من افكار وما يتشكل في الوعي من مفاهيم وتصورات ودوافع سلوك ..
هناك داخل الوعي يولد العالم لا كما هو بل كما نريده او كما نهواه ونشتهيه ، او كما نتصوره بكل "موضوعية " وتجرد ...
وعليه فان العالَم الذي نعيش فيه – على الأقل ظاهريًا – هو من صنعنا وخلقنا .. الحضارة الصناعة البناء الفن الادب الدين الخ، هي مخلوقاتنا التي تكونت وبرزت وتجسدت مما حبلت وتحبل به عقولنا ونفوسنا ..

ولا يوجد خلق من عدم، بل ربما من تشويه ما ومن انحراف ما وابتكار ، ومن الحق والخير والجمال القابع خلف كل ذلك في جوهر وجودنا الخ ..
ان عملية التفكيك للباطن غيرها للظاهر، واذ فهم الانسان نفسه بالظاهر عمومًا، هكذا اعتمد اساليبه وادواته في المعرفة وفي التعاطي مع كل شيء، بما في ذلك اعمق وابعد اسرار وجوده ..
واذا كان كل تصور لشيء - على الاطلاق - يتكون بدء في الوعي سواء فيزيقي او ميتافيزيقي، واقعي او اسطوري، ملموس وغير ملموس، يعني ان الخالق الذي يقف وراء جميع مصطلحاتنا ومسالكنا هو الوعي، ويؤكد هرمس احد كبار الحكماء المستنيرين عبر التاريخ في رسالة "عذل النفس" الواردة باسم افلاطون في مصادر اخرى: يا نفسُ لا يوجد خارج ذاتك شيء مما يجب ان تطلبي علمه ، بل هو فيك بلا غيارٍ ولا غيريةٍ منك .. ويؤكد ان العالم الحسي هو انعكاسات للوعي
" فما واصلته – اي النفس – اظهرت فيه ذاتها على حقيقة قبوله فصار حيًا " ( الشريعة الروحانية)

وبالعودة الى مسألة التفكيك كطريقة للمعرفة والكشف عن الحقيقة .. فاذا كانت الآلة الحسية المركبة من عناصر مادية تُفكَّك حسيًا وميكانيكيًا، فان الكيان المعنوي المركب من تصورات وافكار يُفكك معنويًا وديالكتيكيًا داخل الوعي بتقنية تحقيقية عن طريق مرشد متحقق .. ولا تصلح الاساليب والادوات العلمية التي نعرف بها الكون لمعرفة الوعي ، فوجود الوعي والعالم ينتميان الى بعدين مختلفين كليًا رغم تفاعلهما او تواحدهما، فالعلاقة بينهما شبيهة بالعلاقة التي بين المرآة والصور المنعكسة فيها، لا تحل هذه فيها ولا تشغل حيِّزاً ..

هكذا العالم المادي والحسي في الوعي ، والدليل هو ان جوهر الوعي فينا يظل كما هو رغم التبدل والتغير الدائم للفكر ولحالات الشعور المختلفة فيه، مما يفتح الأمل والامكانية لتحرير الوعي من هذا الكابوس الحسي النفسي الخانق ، وبالتالي نستنتج ان علاقتنا بالعالم كما نعرفه وكما نتعامل معه ،هي علاقة بسيكولوجية مهما عقلنّاها ومنطقناها وحددناها وثبتناها واسسناها ..هكذا هي حروبنا وصراعاتنا وصيرورتنا ، تجري داخل حلم يفرض قوانينه – راقية وهمجية - على وعي بريء منه ومنها تمامًا ..
في الواقع ان العالم هو الذي يعيش فينا لا العكس ونحن ما يُكسبه معانيه المختلفة فينا ، فهو تلقائيًا يظهر في الخمس حواس التي لا رابط بينها في ذاتها ، انما الفكر هو الذي يجمع بينها ثم العقل كوظيفة فكرية ينظم ويميز بين معطيات الفكر ليخلق صورة العالم في الوعي كما ندركها، وكما نفعل فيها ..

ومن خلال تفكيك علاقة الفكر بالحواس تنقطع علاقة الحواس بالموضوعات الحسية، ويختفي الفكر والعقل مع هذا التفكيك تلقائيًا، فيتم التوحد في لمحة واحدة بين الوعي والعالم ككيان واحد لا يتجزأ، كما تختفي الظلال والألوان المختلفة الصادرة عن فوانيس وقناديل مختلفة عند شروق الشمس، وهكذا يتحقق الوعي بذاته ويتحرر كذاتنا الجوهرية، من فعل الأضداد الطبيعية والمكتسبة على حد سواء..

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net 

 

مقالات متعلقة