الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 28 / مارس 09:01

قصة قصيرة - الباب الخلفي/ بقلم: ميسون أسدي

ميسون أسدي
نُشر: 18/07/18 00:52,  حُتلن: 00:53

1
تأخّرت الطائرة عن الاقلاع ساعة من الزمن. الطائرة صغيرة الحجم، ولحظنا العاثر كان الطقس عاصفا، مع رعد وزمهرير. أخذت تتأرجح بنا الطائرة شمالا ويمينا. اعترانا الخوف، علا صراخ الأطفال، تلاهم صراخ النساء ولم يخفِ الرجال رعبهم. أثقل القلق قلوب المسافرين على متن الطائرة. راحوا يضربون أخماسا بأسداس وهدّهم التعب.
حذرَنا طاقم الطائرة من المطبات الهوائية، زاد خوفي عندما بدأت أحد السيدات من خلفي تتلو آيات قرآنيّة. ازدردت لعابي وتحيّرت للحظة، أغمضت عينيّ، أرخيت كتفيّ وتنفّست الصعداء وبعدها شهقت وخرج زفير من أعماق بطني إلى حلقي، اقفلت حجابي الحاجز ليبقى الهواء محتجزا في رئتيّ، وأحزاني عصافير معربشة فوق رأسي. شعرت بأشعّة الشمس تدخل اثنين من أشعتها الدافئة إلى رأسي وتدفّئه، ومن ثمّ تسري في كل أعضاء جسدي وتخرج من باطن قدميّ. شعرت بالارتخاء يُلاعب الخيال الطفوليّ، تخفق الفكرة وتتألق العينان، وينساب اللسان بحلو الكلام. ناديت بأعلى صوتي وبكل ما أوتيت من قوة:
- هيه يا ناديا
فأجابتني: آه شو بدّك؟
- بدك نروح عند ستي؟
- آه بروح
- واين الملتقى؟
- على العين.
- يلاّ لاقيني.
- يلاّ...

2
خرجت من الباب الخلفي لبيتنا. هو في نفس الوقت باب المطبخ... كانت له عدة استعمالات مهمة في حياتنا اليومية، فهو المخرج الخلفي والسري للبيت، فهنالك المدخل الأساسي العادي وهو مدخل الضيوف، أمّا هذا الباب فكنت أستعمله في صغري حينما أدخل خلسة إلى البيت إذا اقترفت ذنبًا، أو حصلت على علامات منخفضة في المدرسة، أو إذا قدّمَت أيّ شكوى ضدي من الجيران أو الأقارب، أو شاركت في شجار، أو علقت في قصة قال وقيل، وكنت مبدعة بكل ذلك، فكان هذا الباب منفذي إلى البيت.
فيما بعد، مع مرور الأيام التي تتلوها الأيام، بتّ أدخله خلسة بعد عودتي من لقاء غرامي بعيدا عن عيون والديّ، وأنا ما زلت أتلمظ طعم السعادة على شفتيّ وهربا من العقاب الشديد لتلمظ العشق والغرام بالخفية. كنت لا أبالي ومستعدة لدفع الغالي والرخيص من أجل ذلك، وكأنّي في جنة من أجمل الجنات، يكركر فيها الماء جاريا بين الأشجار السامقة والزهور من كل لون. هذا الباب الخلفي كنت استعمله يوميا للقاء ناديا، ابنة عمي وابنة خالتي في نفس الوقت، وصديقة طفولتي وجارتي التي لا يفصلني عنها إلا بضع مئات إن لم يكن أكثر من شجرات الزيتون.

3
للباب الخلفي بلكون طوله ثلاثة أمتار بعرض نصف متر، وضع عليه والدي قارورتي غاز وحاوية للقمامة. كنت أخرج من الباب الخلفي إلى البلكون وأنط منه، أنزل في منحدر وعري فيه بعض الصخور، ثم أقفز كالغزالة البرية إلى أرض الحاج نايف وهي أرض تفيض بشجر الزيتون، وعند الزيتونة الكبيرة أمرّ عبر حبلة من الأرض، وأسير حتى أصل المغارة التي كنا نلعب وأحيانا ندرس فيها أنا وناديا، ثم أصعد إلى أرض الشيخ خالد، وكنا نلفظ اسمه "شيخالد" بمقطع واحد، وما أن تطأ قدمي أرضه حتى أسمع صوت زوجته أم خالد العرنوس، وبيتها نسبيا بعيد عن الأرض كبعد بيتنا عن بيت ناديا، ولكنها كانت تراقب الطريق وتعرف كل شاردة وواردة في أرضها، تصرخ بأعلى صوتها، تنادي باسمي وتُبهّر جملها الجميلة بالشتائم: ولك يا بنت، يا ام وجه اسود. والله وللي اسمه الله لأكسر رجليك لمّا أمسكك.
لم تخيفني أم خالد ولم أهتم لصوتها لأنّي أعلم علم اليقين بأنّها بعيدة، ولا يمكنها أن تلحق بي ولكنّها كانت تصيبني بالصميم، تجرح مشاعري وتربكني وهي تناديني "ام وجه اسود"، ففهمت من شتائمها بأن اللون الأسمر هو لون كريه على الناس في بلدي فهزّت ثقتي بنفسي.
اعتادت أم خالد أن تشتم كل الصغار الذين يعبرون ويمرون داخل أرضها، ولكن الطامة الكبرى أنها كانت تنادي الجميع باسمي، وتّتّفنن بشتائمها التي أثارت سخطي وحملتني على البكاء. وبت بسبب أم خالد فرخ البط الأسود في السرب ومختلفة عن بقية أترابي، ويلصقون بي كل التهم التي اقترفها الصغار.

4
التقيت ناديا رفيقتي وسرنا معا على درب العين ومنها الى بيت جدتي. وكأننا نعيش قصّة حبّ أسطورية فائقة الرقّة والعذوبة مع الأرض والسماء والجبل.
كان لنا أنا وناديا وأم خالد العرنوس وكل الأهل والأقارب صوت عالِ صوت جبلي. أبري حنجرتي وأقوي أوتاري الصوتية وأنا أنادي ناديا؛ لنذهب سوية لزيارة جدتي في سنوات الطفولة الخالية من الهموم؛ سن اللعب والحكايات. أنادي بصوتي وكان صوتي يصل حتى قمة الجبل. الصوت وقوته له وظيفة فكنا نستعمله للغناء والصراخ والضحك.
في صباي راودني دائما حلم جميل بأن أم خالد تطاردني، وأنا أقفز من بطحة إلى بطحة، ومن شجرة إلى شجرة، ومن صخرة إلى أخرى، واقفز قفزات عاليًا وكأنّ في كفّات رجلي رفّاسات. في بداية المطاردة، كنت أخاف أن تمسك بي وتبرحني ضربا، كنت أقفز بارتياح دون جهد وابتعد عنها من خلال قفزاتي مستمتعة بالقفز. وتوفّرلي بهجة أبحث عنها في حرارة الجو. لم أكن أهاب أية صعاب.
ما زال عقلي يحملني ومشاعري تتأجج حتى هذه اللحظة حين اتخطى الباب الخلفي وأسير على درب الزيتون، الطريق التي أعبرها حين تصحو الشمس أو حين يطل عليّ القمر وطيف ناديا، واسمع شتيمة أم خالد العرنوس في أذنيّ، ينقبض قلبي وأفرح ثانية لهذه القدرة التي أغلف بها حياتي حالمة ميالة إلى التأمل.

5
لكزتني سيدة اجنبية بخاصرتي عدة مرات وهزتني وهي تحاول أن تهدّئ من روعي وتخبرني بأن الخطر زال، وبأننا مررنا الطقس العاصف بأمان، لم أستوعب بداية ماذا تريد مني تلك السيدة ولكنني رأيت مضيفي الطيران من حولي وهم يقيسون لي ضغطي، ويسكبون الماء على وجهي لأستيقظ من غيبوبتي وأستمتع بها راضية ومبتسمًة، دون أن أكون ضحية لأحد.

مقالات متعلقة