الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 19 / أبريل 05:02

تفسير الشرع بين التحكم بالناس ودعمهم - دعوة الى نقاش/ بقلم: ب. أسعد غانم

ب. أسعد غانم
نُشر: 19/09/18 18:50,  حُتلن: 13:16

بروفيسور أسعد غانم في مقاله:

لست خبيرا شرعيا بالمعنى الحرفي، لكنني اؤمن بان الشرع هو باختصار "الطريق السوي" او ما يدلنا على الطريق السوي، الذي يوجهنا نحو الحياة الامنة والسعيدة في الدنيا والاخرة

اذا كان الشرع لتسيير امور الناس وتسهيل حياتهم عليهم، فأرجو ان نفكر في سيناريو سوف يحصل هنا في مجتمعنا بعد عقدين او اقل

 مدرسة الشيخ فواز مشهور او ما يمثله، ومن يوافق معه، هي مدرسة "متطرفة ومنغلقة" وتسيء لإمكانيات تقدم مجتمعنا

اتصل بي بعض الاخوة، وخصوصا من تيارات الاسلام السياسي، وطرحوا فكرة ان نبادر الى ايجاد منصة للحوار حول ما بدا على انه خلافا حول متطلبات الشرع في قضية الاختلاط بين الجنسين في امسية جرت في المركز الجماهيري في ام الفحم، وادت الى مشادات بين مؤيد ومعارض، وبعض المناكفين لغرض النفاق، او اكثر، والامر حصل كثيرا في الفترة الاخيرة في بلداتنا: الطيرة، عكا، طمرة، الخ، بحيث اصبح ظاهرة لا يمكن ان نسلم بها، بل يجب ان نناقشها ونصل الى تفاهم معقول. وانا ادعو هنا الى ان تفتح المنصات الاعلامية لدينا ابوابها لهذا النقاش، لا بل ان تشجعه لأهميته على حياتنا ومستقبلنا، وانا اقوم بذلك لأنني اعتقد بان الامر في غاية الاهمية وواجبنا عدم ترك الامور حتى الحدث القادم والنقاش الآتي، بل السعي الى نقاش يؤدي الى حالة مصالحة بيت المشارب والتوجهات المختلفة.

لست خبيرا شرعيا بالمعنى الحرفي، لكنني اؤمن بان الشرع هو باختصار "الطريق السوي" او ما يدلنا على الطريق السوي، الذي يوجهنا نحو الحياة الامنة والسعيدة في الدنيا والاخرة، ولي في هذا، كما للمئات ممن اعرفهم، ما يقال. فمن منطلق كوني مسلم، تعلمت اصول الدين في بيت ابي بالفطرة، واعرف الفرق بين الحلال والحرام واراعي ذلك، ما استطعت الى ذلك ولأني انسان مشارك في مجتمعي، ولا اتوانى، ولن اتوانى، عن طرح مواقفي في اية قضية خارجية ام داخلية في مجتمعي، ودائما موقفي واضح سلبا ام ايجابا، وليس نعم ولا في نفس الجملة. وبما انني خبير في جزء من العلوم الانسانية، التي تشمل علوم الشرع، لي مكانتي في العالم في القضايا التي اعالجها، وكتبت عشرات الكتب والمقالات في الدوريات العلمية التي نشرت في ارقى دور النشر عالميا. ولا اسوق هذا للاعتداد، بل لكي اوضح بانني دارس امور مجتمعي واحواله ولي رأي علمي في امكانيات تطوره، وادرّس طلابي واشارك مجتمعي بخبرتي المهنية التي اخترتها، ولكني لا يمكن ان امتعض او ان ارفض الاستماع لرأي في مجال تخصصي من انسان لم يدرس في كلية او جامعة نفس المجال وان اسيء الى شرعية موقفه بحجة انه لا يفقه في هذا العلم او ذاك.

هذا يجعلني قادرا على قول موقف علمي في كل قضية تخص الناس، وان ارفض بشكل قاطع من يسوق بان "امور الشرع" هي حكر على من اكملوا مدارس شرعية وتبحروا في المذاهب الفقهية ، وهو امر مستحدث يساق للسيطرة على الناس.. ولم يكن نهجا في سنوات تأسيس الدين واصوله بل تطور مع الحاجة الى التعامل مع المتغيرات ولأجل ضبطها والسيطرة على مجريات الامور. ومع احترامي العميق للقيمين على هذا النهج، لهم رأيهم العلمي الشرعي، ولي رأيي في الشرع وما حوله.
ترافقت قضية النقاش حول "عرض سراج" في ام الفحم مع خلاف جدي ادى الى تصادم في النقاش، واكثر، الى ان يقوم بعض الزعران بإلقاء قنبلة مولوتوف على باحة المركز الجماهيري اثناء العرض، ومن اراد اثباتا على ان الشرطة متوانيه في ضبط العنف في مجتمعنا، اخذ شهادة مباشرة، فمن يعرف المركز الجماهيري في ام الفحم يعرف بان من القى القنبلة لا يمكن ان يفلت بوجود شرطي واحد، فكيف يفلت بوجود عشرات رجال الشرطة وفي كل المداخل المؤدية للمركز؟ لكن هذا متروك لنقاش ولعمل اخر.

واثارة النقاش لا تأتي من جهة، بحيث انني لا استطيع ان احصر كل ابوابه، ما يهمني هنا ان الخلاف هو ليس بين مؤمن وكافر، بل بين اختلاف في الاجتهادات حول دور الدين في الحيز العام وحول عمق ومعنى هذا الدور. طبعا اقول هذا بعد ان اوضح بانني انسان "علماني"، والعلماني هو ليس كما يهرج بعض المتفذلكين، بانه عكس الدين، هذا غير صحيح ابدا. العلماني هو من يعتقد بان القوانين الوضعية هي من يجب ان تحكم بين الناس، وراشد الغنوشي او طيب اردوغان هم علمانيون حسب هذا الطرح. ما اعنيه انه من الممكن ان يكون الانسان علماني ومتدين جدا، وانا شخصيا اقوم ببعض الواجبات الدينية واقصر كثيرا في بعضها، واعني ما تفرضه علينا اركان الاسلام وقواعده من الحلال والحرام، وليس كل ما اضيف خلال مئات السنوات الى ما يعتبره البعض ديننا، وهو ابعد ما يكون عن الدين، بل بالأساس اما عادات اجتماعية متوارثة او اضافات تمت في سياق السلطة ومتطلباتها من الرعية التي تحكمها، بحيث فهمت اجمالا، ومع مرور الوقت بانها من الدين.

للتوضيح، ما يعرضه البعض بانه "نظام الحكم الاسلامي" هو ليس من الدين، والخلافة مثلا، ومهما قيل من تفسيرات وتأويلات، استحدثت بعد وفاة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وبالتأكيد بعد خطبة الوداع "اليوم اتممت عليكم دينكم...." ، طبعا اجمع العلماء، او غالبيتهم على هذا وذاك، لكنهم اجمعوا في سياق معين، واجماعهم ليس من القرآن، بل من الاجتهاد، والاجتهاد مستأنف عليه، مهما توسع وكان اجماعيا، لأنه يسير في سياق اجتماعي وسياسي. خذوا مثلا عينيا: قبل عشرة سنوات كان واضح في السعودية ان قيادة المرأة للسيارة او خروجها سافرة الوجه من بيتها هو "حرام" وهو في صميم اصول الدين ووجد اجماعا فقهيا لذلك، لكنه عندما اتى محمد بن سلمان، اصبح ذلك الاجماع غير واضح وغير موثوق. ولأنني اؤمن بان الدين هو جمع وليس مفرد، اي ان المسلم يستطيع ان يمارس دينه، كما يمليه عليه ضميره في اطاعة الله، وان اجتهاده الفردي هو المهم، ولا يوجد اي تبرير للانصياع الأوتوماتيكي لأي اجماع، وهو بالتأكيد مرهون بالحيثيات، وخصوصا انه لا توجد اي قضية – عدا اركان الدين والحلال والحرام الواضح، والبعث، وبعض القضايا المعدودة الاخرى- والتي لا يوجد فيها خلاف بين علماء المسلمين ونشطائهم ومذاهبهم وفرقهم واماكم تواجدهم المختلفة....نعم، اماكن تواجدهم – فالقران الكريم انزل بمضامين مختلفة بين مكة والمدينة، والسنة النبوية قيلت في سياقات عينية، والائمة عملوا في اماكن مختلفة، والمفتون كذلك... وصولا الى فقه الاقليات لتذليل مسالك الحياة للمسلمين في البلدان غير الاسلامية.
وعندما لا يراعي القاضي او المفتي او العالم امر تسيير حياة المسلمين، فانه بالتأكيد لا يراعي الشرع ولا أصوله في الالتزام بتسيير امورهم. مؤخرا قام نقاش على خلفية قرار قضائي في محكمة سخنين يمنع امرأة –في خضم خصام ودعوى طلاق متقدمة- من السفر لوحدها من غير ارادة زوجها رسميا وخصمها فعليا. وبعد ذلك تم رد القرار في محكمة الاستئناف وحسنا فعلت المحكمة. انا لا اعرف القاضي، وبالطبع احترم علمه ومقدرته، لكن قرار القاضي جاء منافيا لأصول الشرع والحياة بالمعنى الذي سوف اورده الان وباختصار. كتب القاضي مانعا المرأة من السفر بغير ارادة زوجها معللا ذلك ب"ديننا وعاداتنا"، كل شخص يعرف ان هنالك فرق بين الدين والعادات الاجتماعية، واكثر، اذا كان ديننا –واعني فهمنا لديننا- واحدا، وهو بالتأكيد ليس كذلك، فانه بالتأكيد "عادات". العادات في النقب مثلا تختلف عن العادات في سخنين، فأي عادات قصد القاضي؟

من ناحية ثانية، اذا كان الشرع لتسيير امور الناس وتسهيل حياتهم عليهم، فأرجو ان نفكر في سيناريو سوف يحصل هنا في مجتمعنا بعد عقدين او اقل. بعد سنوات قليلة ونتيجة لتغييرات في التحصيل العلمي وتوجه بناتنا وابنائنا الى مجالات تعليمية لها علاقة بالعولمة، مثل دراسة الكمبيوتر، والاتصالات والتسويق، الخ.... سوف نرى ان العشرات من بناتنا سوف تجد عملا ملائما في شركات عالمية تعمل في الصين والهند والبرازيل واوروبا، ناهيك عن الخليج وافريقيا.. وسوف تضطر الى السفر اسبوعيا وشهريا، ولي اصدقاء يقومون بذلك الان. فكيف يمكن لمثل ما قرره القاضي ان يسهل عمل تلك الفتيات وان لا يضع مصيرهن وتقدمهن في يد ازواجهن او من حولهن من الذكور؟ واجب القاضي ان يراعي تطورات مجتمعه ويرصد كيفية خدمتها لا عكس ذلك. المسألة بسيطة، وكان من الممكن تجاوزها بسهولة، من حيث التمسك بعدم انتهاك الحلال والحرام، والاصرار على التفاهم بين الزوجين، وليس من خلال قرار يتعلق برأي او عقلية الرجل فقط. ما اعنيه ان القاضي استسهل الامر ووفر سببا "شرعيا" للنزاعات بين الازواج وعقّد حياتهم بدل تسهيلها، وذلك ممكن.

الان عودة الى قضية ام الفحم والنقاش حولها. لا اعرف الشيخ مشهور فواز شخصيا، لكنني احترمه عن بعد واعرف بعض من وقعوا على "بيان الائمة والعلماء" في ام الفحم –الذي تم ترشيده وتهذيبه في بيان لاحق- ولي احترام شديدا لشخوصهم ولمعرفتهم، ولهم الحق بالحض على ما يعتقدون بانه صحيحا، ولهم واجب تبيان الحلال والحرام ، وفق اصول ديننا مع حفظ حقهم في عدم المشاركة في فعاليات لا تلائمهم ، لكن ليس لهم اي حق في توسع فكرة "مخالفة الشرع" وجعلها ملائمة لكل حالة وتوسيعها حتى المس في اعراض وشرف ودين من يختار المشاركة في مثل هذه المناسبات. وجود الذكور والاناث في اجتماع مختلط، وعينيا في مطعم او في سهرة فنية ملتزمة ، ليس به اي مخالفة للشرع، ولا يوجد اي نص قرآني او حديث يمنع ذلك.... ويبقى هنا الدور للاجتهاد، وانا شخصيا اشجع بناتي على المشاركة في مثل هذه النشاطات. واذا عدنا للوراء لأكثر من نصف قرن وشاهدنا حفلات ام كلثوم يصغي لها الالاف في حفل مختلط، ولم نسمع آنذاك، لا من الأزهر ولا من النشطاء الاسلاميين ولا من الحركات الاسلامية آنذاك، بان هذا مخالفا للشرع. الامور تسوء ويجب ان نناقشها ولا نسمح بان يستسهل البعض استغلال الدين لخدمة رأيه او فكره، مهما كانت مكانته.

اما في باب الاختلاط، يوجد فرق شاسع بين ما يعمل به في السعودية او ايران او حسب طريقة القاعدة وداعش وبين ما يسري في تركيا المسلمة او تونس وما يهدي اليه راشد الغنوشي، او يحصل في اندونيسيا او في المجتمعات المسلمة في اوروبا، وحتى لدينا هنا. مثلا، في الفترة الاخيرة اقرت الحركة الاسلامية المعروفة "بالجنوبية" ميثاقا جديدا ينضح بالانفتاح وتفهم حاجات مجتمعنا، ولا يخنق الناس ولا يجعل كل خطوة في اختلاط او عمل بنت خارج البيت او سهرها مع صديقاتها واصدقائها "محرما شرعا"، وقد دعى نائب رئيس الحركة الاسلامية ورئيس القائمة العربية الموحدة د. منصور عباس العشرات من ابناء شعبنا، ومن جميع الطوائف والمشارب الاجتماعية والسياسية والفكرية، الى نقاشا واسعا حول الموضوع... تمخض عنه النص النهائي للميثاق بحلة منفتحة وانسانية وتتعامل بإيجابية مع التعددية وتراعي حياة الناس وحاجاتهم من خلال التوسع في فهم النص الديني، مما يجعله طوعا للمجتمع واحتياجاته وتطوره....

ما اقصده هنا، ان مدرسة الشيخ فواز مشهور او ما يمثله، ومن يوافق معه، هي مدرسة "متطرفة ومنغلقة" وتسيء لإمكانيات تقدم مجتمعنا، في السياق الاجتماعي قياسا مع كل المدارس الفقهية في العالمين العربي والاسلامي، وحتى قياسا مع المدارس المستحدثة في المجتمعات الاسلامية في الغرب. والتسليم بها هو خنق لمجتمعنا ولإمكانيات تطوره، ولا يستفيد من ذلك الا من يعتقد –وهو اعتقاد اجتماعي وليس ديني- ان مكان المرأة في البيت، واذا عملت يجب ان تعمل وفق املاءات زوجها او ابيها، وليس بالتفاهم معها على مصالحها ومستقبلها وصالح ابنائها وعائلتها الصغيرة . برأيي المتواضع، هذا بالضبط هو ما يخالف الشرع وليس الحفلة المختلطة ولا عمل البنت خارج البيت ومشاركتها في حفل موسيقي او في عشاء مختلط في مطعم بعد يوم عمل شاق. والموضوع مفتوح للنقاش، ولأنني ارفض اقصاء التيارات الدينية من حقها في المنافسة على الحيز العام واعتقد بان التفاهم بين التيارات الدينية وغيرها هو مفتاح لمستقبل شعبنا ومجتمعنا وارفض دعوات الشقاق والخلاف بين تيارات مجتمعنا، فلا زلت امل بان يتم النقاش والحوار ونصل الى عقد اجتماعي مبني على استيعاب المختلفين، لا اقصاء بعضهم لبعض.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net   

مقالات متعلقة