الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 19 / أبريل 02:02

العصبية التنظيمية والفكرية تلفظ انفاسها الأخيرة/ بقلم: نبيل عودة

نبيل عودة
نُشر: 14/11/18 09:50,  حُتلن: 14:26

نبيل عودة في مقاله:

كانت نجاحات أفكار كارل بوبر مباغتة وغير متوقعة، وعمليا يمكن اعتبار كتابة المذكور كأهم نظرية في الفكر السياسي بعد الحرب العالمية الثانية

الأخطاء التي ارتكبها سياسيون شيوعيون شكليا، يتجلى بعدم قدرتهم على تخطي الحالة الوضعية التي ازداد تراكمها في تنظيمهم وفكرهم

لم اتفاجأ من فوز علي سلام برئاسة بلدية الناصرة في انتخابات عام 2013-2014 كمقدمة لانتصاره الكبير في اكتوبر 2018. كنت قد توقعت فوز الجبهة بالرئاسة عام 2013 لكن بعدد قليل من الأعضاء، لذا دعوت في اول مقال كتبته في وقته الى عدم هدم الجسور بينهم وبين علي سلام. لأنهم قد يحتاجوه او يحتاجهم في المجلس البلدي بعد الانتخابات. ليس سرا ان مقالاتي في وقته كانت لصالح جبهة الناصرة ، رغم انهم يقاطعونني منذ آخر ثلاثة او اربعة معارك انتخابية، لأسباب لا يعلمها الا صبيان الحزب الشيوعي. لم اوفر نقدي ضد الجبهة واسلوب تعاملها. لكن فوز علي سلام الأول اضطرني الى اجراء حساب فكري لفهم هذه الظاهرة السياسية غير التقليدية، بحيث يهزم فردا(هو علي سلام) حزبا له جذوره وكوادره المنظمة وجهازه التثقيفي وتنظيمه المترابط وخبرته الانتخابية وجماهيره التقليدية وهي قوة لا يستهان بها.

مراجعاتي الفكرية لموضوع النظريات السياسية، وخاصة كتاب «المجتمع المفتوح وأعداؤه» لكارل بوبر، وهو كتاب في الفلسفة السياسية، وبرع في نقد نظرية ماركس حول "الحتمية التاريخية"، التي شكلت لنا نهجا ايمانيا بمصداقية طريقنا واحلامنا حول المستقبل الذي نحلم به. نقده التحليلي ودقته التاريخية، فتحت امامي عالما فكريا جديدا متحررا من الكليشيهات الجاهزة النهائية التي تثقفت عليها في التنظيم الشيوعي. حيث سادت ظاهرة عبادة الأفكار والاصطلاحات المجردة، مثل: البروليتاريا، الأممية العمالية، الصراع الطبقي، النظام الاشتراكي، ديكتاتورية البروليتاريا، حتمية انتصار الاشتراكية التاريخي، المركزية الديموقراطية للحزب الشيوعي (التي كانت بالأساس مركزية بلا ديموقراطية)، والويل لمن ينتقد زعيما للحزب، بإمكانكم نقد رفاق الحزب العاديين، لكن ليس قائدا حزبيا، وانتقال نهج عبادة الفرد الستالينية (التي لم تختف آثارها المدمرة على الحركة الشيوعية حتى يومنا هذا) الى صيغة ثابتة لكل من يصبح قائدا حزبيا.. وكان لنا نصيب كبير منها.

كانت نجاحات أفكار كارل بوبر مباغتة وغير متوقعة، وعمليا يمكن اعتبار كتابة المذكور كأهم نظرية في الفكر السياسي بعد الحرب العالمية الثانية، اذ صدر كتابه عام 1945. كانت نجاحات الشيوعيين انها جعلت أصحاب العقول الساذجة يعتقدون أن بإمكانهم أن يفهموا العالم اذا رددوا شعارات وعبارات فكرية لا يفقهون معناها على الأغلب، ولا مصدرها، غطيت بأوهام "علمية" وهي مجرد اعلام حزبي رخيص.

ان الأخطاء التي ارتكبها سياسيون شيوعيون شكليا، يتجلى بعدم قدرتهم على تخطي الحالة الوضعية التي ازداد تراكمها في تنظيمهم وفكرهم، حتى حديثهم عن المبادئ يفتقد لأي نموذج شخصي، بل يتميز بأنه تكرار لمنظومة فكرية تتجاوز واقع مجتمعاتهم، يرددونها كمحفوظات مدرسية وانا على ثقة انه ترديد ببغاوي بلا وعي للمضمون.

ابرز ما في قاموسهم الفكري (اذا صح ان نسميه فكري) هو اتهام كل من يترك تنظيمهم او ينتقده بالخيانة، وهذا ما جرى معي. رغم ان المنطق العقلي ان لكل انسان عقله وتفكيره وحقه باتخاذ القرار الفكري بناء على تجربته وتطور تفكيره السياسي والاجتماعي. كان واضحا لي ان من يظلون بمكانهم ونفس اطار افكارهم هم اشبه بحمير الرحى، يدورون ولكن لا يخرجون من الدائرة. للأسف كثيرا ما لمست عقولا مشلولة، كان ظني ان دافعهم وطني وانساني، هذا صحيح، لكن البقاء بنفس دائرة الرحى يفضح ان ما لقنوا به هو زادهم الوحيد والأوحد في نشاطهم السياسي وباي مجال لحزبهم. لذا أي مقارنة لأقوال، تعليقات وتفسيرات نشطاء حزبيين ، تتطابق بشكل مذهل، هذا لا يشير الى التزام فكري، بل الى شلل عقلي وجمود فكري مرضي. فهل هناك خطة فكرية للتنظيمات الشيوعية (وغير الشيوعية)، ان يحولوا كوادرهم الى ببغاوات او حمير رحى؟

لا افهم عقولا لم تستوعب ما يجري في عالمنا من تحولات نحو تعميق الديموقراطية الاجتماعية والسياسية، وتحديثها المتواصل بينما يصرون على نظرية لم يجر تطويرها من القرن التاسع عشر تعرف باسم "ديكتاتورية البروليتاريا" وانا ادعي انها نظرية معادية لفكر ماركس نفسه. لأن ماركس اصلا لم يعالج ويبحث بمضمون الطبقات بتوسع. ماركس فكر بمجتمع ينقذ الانسان من العبودية بكل اشكالها من الاستبداد السياسي والديني في زمنه. هل الاستبداد الذي ساد الأنظمة الاشتراكية ينطبق على فكر ماركس؟ طبعا كان نقيضا للماركسية. المستهجن ان التمسك بمقولة البروليتاريا يتواصل حتى يومنا رغم ان كل الأبحاث التاريخية والفكرية والاقتصادية اثبتت منذ قرن كامل على الأقل، ان ظاهرة البروليتاريا كانت ظاهرة قصيرة المدى سادت دول اوروبا الغربية المتقدمة اقتصاديا واختفت قبل نهاية القرن التاسع عشر. وهي بالأصل اصطلاح من الامبراطورية الرومانية القديمة حيث وصف الفقراء المعفيين من دفع الضريبة ب "البروليتاريا" – أي المسحوقين. واستعملت في بداية العصر البرجوازي لفترة قصيرة جدا، وكانت ظاهرة اوروبية بالكامل.

القرن الحادي والعشرين هو قرن انعتاق الشعوب من عبادة الملوك ورجال الدين والقادة السياسيين، هو قرن الوعي السياسي والاجتماعي وسقوط الأحلام الرومانتيكية التي اتخذت شكلا مضحكا في الكثير من الحالات، بتعليق اوهام الانسان بشخصية لها شهرة ثقافية او خطابية رغم ان نشاطها العملي لم ينعكس الا بالسلبيات والمغالطات للمنطق حتى البسيط. لذا نجد أن قرننا الحادي والعشرين بدأ ينحو فيه الانسان نحو الواقعية وليس باستمرار التمسك بالموروثات بأصنافها المتعددة وخاصة بكل ما يخص الفكر السياسي، الاجتماعي والديني.

الظاهرة السائدة في التنظيمات الشيوعية هو رفضهم للتعددية، اذا شكلت خطرا على مكانتهم. طبعا النظام الشيوعي الذي ساد اوروبا الشرقية لم يسمح باي شكل من التعددية السياسية بل حتى التعددية الثقافية اعتبرت تجاوزا على القانون، لدرجة تعيين قوميسار ثقافي هو أندريه جدانوف (ضابط ثقافي شبه عسكري بدرجة وزير) يشرف على النصوص الثقافية واشتهر القمع الثقافي للمثقفين السوفييت باسم "الجدانوفية".. ووزيرة ثقافتنا ميري ريغيف لم تختلق هذا النهج بل استوردته من الاتحاد السوفييتي السابق.

من هنا لا افهم تحاملهم ضدي الا بانه شكل آخر من "الجدانوفية الفكرية" ورفض التعددية ومن رؤيتهم ان نقدي لتنظيمهم هو جريمة، لكن السلطة ليست بيدهم لنفيي حتى الممات الى "غولاغ سيبيريا"(معسكرات نفي من كان يصلها لا يخرج حيا منها).

يمكن وصف نهجهم الفكري بالعصبية القبلية لكن بمضامين حديثة. الفكر السياسي الحديث يستعمل مصطلح "العصبية القبلية" كمصطلح سياسي حديث، يعنى الموالاة بشكل تام للتنظيم السياسي (طبعا مجتمعاتنا الشرقية لم تتخلص من الظاهرة العائلية والقبلية) وهذه الموالاة لا تختلف كثيرا عن أنواع العصبيات المندرجة تحت السلوك الإنساني. ويطلق مصطلح "العصبية القبلية" على العصبية المذهبية (احزاب وتنظيمات) والعصبية الطائفية والعصبية القومية، وغيرها من اشكال اقل أهمية.

تاريخيا كانت اوروبا معيارا لتطور الفكر السياسي، معيارا لتطوير النظام السياسي، معيارا لتطور حقوق الانسان، معيارا لتطور النظام الديموقراطي، طبعا لا شيء كامل ووردي، لكن المقارنة بين انظمة استبدادية، ونظام ديموقراطي تبرز الفجوة الهائلة لحقوق الانسان بين النظامين وهو ليس لصالح الأنظمة الاستبدادية حتى لو تغلفت بالفكر الماركسي. حتى النظريات الفلسفية والسياسية والتاريخية والعلمية البارزة انطلقت من اوروبا. وأصبح النموذج الاوروبي هو المعيار للنظام الديموقراطي المقبول على اكثرية مواطني العالم. الا على بقايا الحركة الشيوعية.. ما زالوا يحلمون بنظام فشل اقتصاديا وانهار بسبب ذلك. لا انسب الفشل للفكر الماركسي ، بل للانحراف عن الماركسية وقبرها، الذي جعل منها سجنا بشريا وقمعيا رهيبا.

من هنا ارى ان استمرار تنظيم الجبهة في الناصرة، وقطريا ايضا، بالمعايير السائدة وبالعصبية التنظيمية والفكرية المسيطرة على قادتها وكوادر التنظيم، بدأت تظهر دلالات فشلها ونهاية مكانتها. آمل ان يتعاملوا مع نقدي بعقلانية لمصلحة تطوير فكرهم وتنظيمهم، لست معاديا بل حزينا لفشل حلم اعطيته نصف قرن من عمري.

المستقبل ليس لتنظيمات عصبية بل لتنظيمات مجتمع مدني مفتوح امام نشطاء الفكر، وهو ما سيكون عليه مستقبل النشاط السياسي في عالمنا وهنا أيضا. 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com   

 

مقالات متعلقة