الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / مارس 12:02

جموح روسي متجدّد ضد الأوكرانيين/ بقلم: محمود الريماوي

محمود الريماوي
نُشر: 01/12/18 08:35,  حُتلن: 09:33

محمود الريماوي في مقاله:

تنكر موسكو على أوكرانيا حقها في أن تكون جزءاً من الفضاء الأوروبي

لعبت موسكو على وتر إثارة النعرات العرقية بين من هم من أصل أوكراني، وهم الغالبية، ومن هم من أصل روسي وبيلاروسي

تحتجز السلطات الروسية منذ مساء الأحد الماضي ( 25 نوفمبر/ تشرين الثاني) 24 جنديا وضابطا أوكرانياً، كانوا على متن ثلاث سفن، تتبع بلادهم في المياه المحاذية لبحر أزوف، بعد إطلاق النيران على السفن، والتسبب بجرح ستة جنود أوكرانيين. يحمل الحادث قدرا ملحوظا من الخطورة، فهو بمثابة عمليةٍ عسكريةٍ كاملة، إذ تمت بغير اللجوء إلى وسائل التحذير التقليدية في مثل هذه الحالات. ولم تُبد موسكو نيتها في إطلاق سراح 15 من المحتجزين، ولو بعد إجراء تحقيق معهم. وخلافا لذلك، أمرت السلطات بتوقيف المحتجزين شهرين، على أن تتم محاكمتهم بعد انقضاء هذه المدة، بما يجعلهم أقرب إلى أسرى حرب. وقد اقترنت هذه الإجراءات "الحربية" بتحشيد روسي على الحدود، بمضاعفة عدد الدبابات الروسية المرابطة إلى ثلاثة أضعاف العدد المعهود، والتبشير بأن صواريخ إس 400 سوف تكون جاهزةً للعمل مع نهاية العام الجاري على الحدود. وهو ما حمل السلطات الأوكرانية على إعلان حالة طوارئ في عشر محافظات، والتحذير من حربٍ شاملةٍ قد تتعرّض لها أوكرانيا. ويعتبر هذا التطور حلقةً في سلسلة من التصعيد الروسي ضد الجارة أوكرانيا، والذي بدأ منذ أوائل العالم 2014 مع قيام انتفاضة شعبية ضد الرئيس الأوكراني السابق المقرّب من روسيا، فيكتور يانوكوفيتش... الذي كان يرفض توجه البرلمان والحكومة إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ويرغب بدلا من ذلك بدوران بلاده بالفلك الروسي.

وقد أدى ذلك من جانب موسكو إلى الاستيلاء على شبه جزيرة القرم، وقيام تمرد في المناطق الشرقية التي تضم أقليات روسية ورومانية وبيلاروسية (الرئيس الأوكراني السابق يانوكيفيتش كان ينتمي لهذه الأقليات). وقد حظي التمرد بدعم كامل من موسكو، وأدى إلى اشتباكات واسعة، سقط على أثرها نحو عشرة آلاف ضحية، ليَلي ذلك الإعلان عن جمهورية دونيستك الشعبية التي لم تنل أي اعتراف دولي. ومنذ ذلك الوقت، لم تتوقف موسكو عن محاولات ترهيب الدولة الأوكرانية "الصغيرة"، والتي توصف في موسكو بأنها "روسيا الصغرى"، ومحاولة توسيع نطاق الرقعة التي استولى عليها المتمرّدون في المناطق الشرقية. وكان من اللافت أن وسائل إعلام المتمردين تطوّعت، نيابة عن موسكو، بالقول تعليقا على نتائج العملية العسكرية الروسية الأحد الماضي: أن تسليم ماريوبول (المدينة والميناء) كفيل بإطلاق الجنود وإعادة السفن إلى أوكرانيا. وذلك في إشارة إلى الرغبة في جعل كامل المناطق الشرقية تحت النفوذ الروسي.

جاء التحرّك الروسي قبل أيام من قمة مجموعة العشرين المقرّرة في بيونس آيرس (تعقد يومي الجمعة والسبت). وفي محاولةٍ لوضع المراكز الدولية أمام أمر واقع جديد يتعلق بأوكرانيا، وفي أضعف الأحوال، من أجل اتخاذ أسر السفن والجنود الأوكرانيين ورقة مساومة، على أن الرد السياسي العنيف من كييف بإعلان حالة الطوارئ، والتحذير من حربٍ شاملة قد يشنها العدو الروسي الذي كان جارا قبل وقت قصير، نبه الدوائر الغربية إلى خطورة ما يجري، إذ دعا الاتحاد الأوروبي إلى إعادة السفن والجنود الأوكرانيين فورا، كما لمح الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى إمكانية إلغاء لقائه المقرر مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على هامش قمة العشرين، بينما أعلنت ألمانيا وفرنسا استعدادهما للشروع في وساطة لنزع فتيل التوتر بين موسكو وكييف. ومعلوم أن موسكو تخضع لعقوبات أوروبية وأميركية، منذ العام 2014. وكان من اللافت تعليق الدوائر الروسية على رد الفعل الأوكراني بأنه محاولة من كييف لإدامة العقوبات على موسكو وعدم مراجعتها! وكأن المشكلة تكمن في رد الفعل، وليس الفعل نفسه الذي أقدمت عليه موسكو المهجوسة بإعادة النفوذ السوفياتي السابق، ولكن باسم روسيا أو الاتحاد الروسي هذه المرة، وبمطامع قومية توسعية غير خافية، وبإنكار تام لمبدأ حق الشعوب، بمن فيها شعب أوكرانيا في تقرير مصيرها (نحو 43 مليون نسمة، زهاء 17% منهم في المناطق الشرقية).

وبدلا من احترام إرادة الشعوب واحترام واقع التنوع والتعدّد فيها، فقد لعبت موسكو على وتر إثارة النعرات العرقية بين من هم من أصل أوكراني، وهم الغالبية، ومن هم من أصل روسي وبيلاروسي. ويقوم التمرد الذي جرى في المناطق الشرقية على أسس عرقية، ويسترعي الانتباه أن بعض المكونات الدينية، كالتتار، وهم من سكان شبه جزيرة القرم، ويقيم بعضهم في مناطق أوكرانيا الشرقية، هؤلاء يتعرّضون للتمييز ضدهم على خلفية عرقية ودينية.
وتحاول موسكو، في الأثناء، سد منفذ بحري رئيس، وهو مضيق كيرتش، أمام الملاحة الأوكرانية، أو على الأقل عرقلة هذه الملاحة (هذا المضيق هو الطريق البحري الوحيد بين البحر الأسود وبحر آزوف، ويعتبر محورا استراتيجيا ذا أهمية قصوى لكل من روسيا وأوكرانيا) من أجل خنق دولة اوكرانيا، وذلك بعد توجيه إهانة متعمدة للمؤسسة العسكرية الأوكرانية في عملية الأحد الماضي.

وتنكر موسكو على أوكرانيا حقها في أن تكون جزءا من الفضاء الأوروبي. ويرغب الكرملين في استعادة "أمجاد" روسيا القيصرية والسوفياتية، إذ كانت أوكرانيا خاضعة لهاتين الإمبراطوريتين قرونا، ولم تحقق استقلالها الفعلي إلا في عام 1991 بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وبينما تؤيد موسكو فكرة إنشاء جيش أوروبي، فإنها تسعى، في الوقت نفسه، إلى حرمان جارتها أوكرانيا من العمق الأوروبي، وتختار لها بدلاً من ذلك التبعية لموسكو.

وتمتحن هذه التهديدات التي تتعرّض لها كييف مستوى الالتزامات الأوروبية والأميركية بحماية سيادة هذا البلد واستقلاله، أمام الجموح الروسي، والطموحات القومية الجيوسياسية غير المشروعة لموسكو، والتي لا تأبه لحقوق الشعوب (اتخذت روسيا موقفا عدائياً مما سمته الثورات البرتقالية في أوروبا، ثم من موجة الربيع العربي). ولا تأخذ علماً بأفول عهود الهيمنة والتوسع من عالمنا. وتنزع موسكو، في هذه الآونة، إلى تفكيك أوكرانيا، وإثارة نزاعات داخلية فيها، من أجل إضعاف هذه الدولة المزدهرة، وحرمانها من فرص الاستقرار والنمو، عقاباً لها على نزعتها الاستقلالية.. وبالنظر إلى سلوك روسيا تجاه الأوكرانيين، فإنه يُفهم سر عدائها ملايين السوريين.

* نقلًا عن العربي الجديد - لندن

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com

مقالات متعلقة