الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / مارس 09:02

الأيام الخوالي وحلاوتها/ بقلم: زهير دعيم

زهير دعيم
نُشر: 06/02/19 14:06,  حُتلن: 14:11

كثيرا ما أتحسّر على هاتيك الايام ، الأيام الخوالي ، ايام البساطة والفقر " والقلة " وخبزنا كفاف يومنا ... أيام كنا نقضي الصيف كله حفاة نركض خلف النوْرج شهرًا كاملًا حتى نتمكن من الحصول على " شروة " من الحبوب نبادلها بحفنة أو أكثر من السكاكر الحمراء الشهية ، وٍأيام كنا نتربّص لدى جيراننا ساعات حتى نحصل على ملء صحن من البليلة فنحّليها بالسكر الابيض النادر تارة والاحمر تارة اخرى.

سقى الله تلك الايام ، ايام يا حامي الحمى تحمي البيت وأصحاب البيت ، حين كانت الامطار امطارًا والرعد رعدًا والبرق وميضًا يمّزق وينهش السماء ، وحين كان وادي قريتنا يُعربد ويزبد ويرغو فلا نأبه به ونحن نزرع جانبيه بالمصائد ، ونروح ننتظر اسراب الزرزور والقطا والسُّمن وعرائس التركمان حتى نملأ منها جرابنا وبطوننا الخاوية .
سقى الله تلك الايام حين كانت شعرة الشاربين كمبيالة مقدسة ، وكلمة الرجل وثيقة فتبيع وتشتري وانت مطمئن ، وتنام على سطح البيت آمنًا ، وتصحو على زقزقة الدّوري والشحرور والحسون ، والابواب ُمشرّعة للشمس والهواء .

سقى الله تلك الايام حين كان الفقر " المُقدّس " يستحوذ على حياتنا فلا نتأفف ولا نتذمر ، بل نروح ننتظر الوالد عائدًا من حيفا وفي جعبته معطف كمعطف غوغول اشتراه من سوق الخردوات أو تراه يحمل حذاءً مستعملًا أخذ مقاسه بخيط معقود الحاجبين !! .كانت أياما لذيذة ، تملؤها المحبة ويملؤها الذوق البكر رغم ضيق اليد ، ورغم التعب ، فمنظر الراعي يسوق قطيعه الى المرعى لوحة رائعة قلّ ما يقدر على رسمها فنان ، ومرأى الحاصدين والحاصدات وهم يزرعون الحقول عتابا وميجانا ، تقف أمامه فيروز حيرى!

سقى الله تلك الايام وذكرها بالخير ابدًا ، يوم كان الخضار يشدّك برائحته ، فيسيل لعابك على حبة بندورة لوّحتها شمس الصيف ، أو حبة تين غزالية تملأ كفك عسلًا ولا أحلى ، ناهيك عن القطين والزبيب والسّدة الملآى بخيرات الشرق .

أما اليوم يا صاحبي ، فإننا نكاد نصول ونجول في الفضاء وعلى سطح القمر والمريخ ، وقد أضحت الدنيا بلدة صغيرة وأضحى اختراع الأمس بائتًا عتيقًا اليوم ، وطغت التقنية على كل حياتنا ووجودنا ، في هذا اليوم فقدنا كل شيء ، فقدنا المحبة هذه التي نفتش عليها بألف فتيلة فلا نجدها ، وخسرنا الطمأنينة أما القيم والشيم والمروءة فحدّث ولا حرج ، فقد اختفت كما اختفى السُّمن والزرزور والامطار الهادرة وجاء الجديد .. !! ومن قال أن لا جديد تحت الشمس ، فالجديد يملأ كل اكناف المعمورة .

فانظر يا رعاك الله اينما وكيفما شئت ، تجد الاغاني المائعة والاجساد المتأوّه " المتقزّعة " والرجولة المخنّثة ، والاقراط تزين آذان الشباب ، والهيروين سيّد الموقف ، والسرقات تدبُّ في كل ليلة في الاحياء والبيوت والمصانع ، أما العنف بأنواعه وأشكاله فلا يهدأ أبدًا ، فتراه يتمرّغ في وعلى ارضية حياتنا ليلًا ونهارًا صبحًا ومساءً ، في النوادي والمدارس والمعاهد والشوارع والبيوت .

لقد أضحى العنف جزءًا من حياتنا ، وحيّزًا من وجودنا ، فامّحت هيبة المعلم وديست كرامته تحت وطأة ما يسمى بالتربية الحديثة ، فانقلبت الآية وغدا الطالب يعتدي على معلمه في حين كان المعلم مُربّيًا يزرع الاخلاق الحميدة ويسقيها بالحنان والأبوة وأحيانًا بالعقاب المعقول !

أما الابن البارّ فقد انقلب بقدرة قادر الى عاقّ ، يسرق مخصصات تأمين أمّه وجدته وجده ولا يتورّع من استعمال العنف ان اقتضى الامر .

لقد اضحى العنف بيت القصيد ، وصار الظلم سيدًا مطاعًا يلوّنونه تارة باللطف ويسمونه احيانا ديمقراطية !!
لستُّ متشائمًا وحقّك ، فالدنيا رغم كل هذا بألف خير ، فالخير رغم سوء توزيعه يملأ الارض وما حولها ، والحضارة المرنان في كل زاوية من زوايا البيوت والحياة ،

فما أحيلى عادات الامس ودفء الامس تتعانق مع حضارة اليوم ، ووهج اليوم وعلم اليوم ، عندها قد نقول : " ورأى الله ذلك أنه حسن".

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com  

مقالات متعلقة